منتديات الشنتوف
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.


منتدى الجميع
 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 آمال وهواجس الجزء الثالث

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
ميسي
عضو مبتدئ
عضو مبتدئ
ميسي


عدد الرسائل : 34
العمر : 31
تاريخ التسجيل : 25/09/2007

آمال وهواجس الجزء الثالث Empty
مُساهمةموضوع: آمال وهواجس الجزء الثالث   آمال وهواجس الجزء الثالث I_icon_minitimeالأحد فبراير 17, 2008 12:44 pm

قضاة الملوك
بدا هارون عصبياً، كل ذرّة في كيانه تضجّ إلى الخمرة وكؤوس اللذة.. هارون يريد أن يغرق فينسى كل همومه.. ينسى إدريس ويحيى.. ينسى موسى.. ولكن من الحماقة أن يترك دولته ويغرق في السكر.
ليضرب ضربته ثم يحتفل.. ومضَ في ذهنه طيفٌ لجدّه بحلّته السوداء وقسوته وسيفه الذي لا يكاد يفارقه.. التفت هارون إلى وزيره الرجل الذي بشّره ذات مساء بالمُلك العريض، هتف هارون بغيظ:
ـ لا أريد أن أرى علويّاً في بغداد بعد الآن.. لا تدَعوا فيها أحداً صغيراً ولا كبيراً..
هيمن وجوم على المكان..
انحنى الوزير انحناءة خفيفة، هتف « الخليفة » وقد اشتعلت عيناه:
ـ أريد أن يتم الأمر هذه الليلة.
ـ إطمأنَّ يا سيدي..
ـ لا تنسَ أن ترسل لي جعفراً.
ابتسم الوزير.. وقد أدرك أن ابنه قد نفذ إلى قلب « الخليفة »:
ـ سأفعل ذلك يا مولاي..
غادر الوزير المكان.. صفق « الخليفة » بكفّيه كأنما يعلن عن مشهد آخر.. مشهد يختلف تماماً عمّا كان عليه قبل لحظات. اختفى الحرّاس وراء الأبواب.. أقبل سرب من الجواري كغزلان، وأطباق الطعام وآنية الخمر..
وجاء جعفر يرفل بحلّته الحريرية.. اتّخذ مكانه إلى جنب « الخليفة » الذي هبّ إلى لقائه بشوق..
الفتيات الجميلات يرفلن بحُلل مزركشة بالذهب في وجوههن تموّج فتنة.. إتّخذت « هيلانة » مكانها فوق كرسي وأحطن بها الجواري.. مسّت العود بأنامل ناعمة.. وانسابت الأنغام.. أنغام موسيقى حالمة، وكلمات بشرية ناعمة:


نظرتْ عيني لِحيني وزكا وجدي لبَينـي
من غزال قد سباني تحت ظلّ الدرّتَيـنِ
سكب الماء عليـه بأباريـق اللُّجَيـنِ

دارت الكؤوس، وحلّقت النفوس، في عوالم مفعمة باللّذة والمتع السُّفلية، وبدا « الخليفة » كائناً مسّته شياطين الشهوة.. الجواري يتضاحكن.. يتغامزن..
الكؤوس ما تزال تدور وهارون أصابه الدوار.. عشرات الصور تومض في رأسه المثقل بخمرة معتّقة.. استقرّت في مخيلته صورة لحسناء جميلة.. تخلب اللب، قال بلهجة مخمورة:
ـ ما اسم الجارية التي اشتريتَها بالأمس يا جعفر ؟!
عبّ جعفر بقية كأسه وقال مخموراً:
ـ وما تريد من اسمها ؟! لها ألف اسم واسم..
آه لو رأيتَ ساعديها وزنديها.. آه لو رأيت...
شبّت نار الشهوة في أعماق هارون..
ـ بِعْها.. أُعطيك وزنها ذهباً وفضة. بِعْها.. أُعطيك وزنها ذهباً وفضْة.
ـ اتراني أحتاج إلى الذهب أو إلى الفضة ؟!
ـ إذن هبْها لي!
ـ ولماذ أهبها لك.. قل لي بربك ماذا تصنع بها ولديك آلاف الجواري الحسان ؟!
أطلق جعفر ضحكة متهتكة وأردف:
ـ وزبيدة.. ألا تخشى أن تغضب منك ؟!
اشتعلت حمى الشهوة في نفس هارون، هتف بضيق:
ـ زبيدة.. زبيدة طالق ثلاثاً إذا لم تبعها أن تهبها لي.
قهقهت جارية بصوت فيه أصداء غنج..
اعتدل جعفر مترنّحاً وصاح مخموراً:
ـ زوجتي طالق ثلاثاً إن بعتُها لك أو وهبتها..
الجواري يستغرقن في ضحكات ناعمة.. وانطلق صوت ناعمٌ يصدح في ظلمة الليل:


وسواعد تزهو بحسن أساورٍ كالنار تضرم فوق ماء جارِ
فكأنّما والتِّبرُ محتـاط بهـا ماءٌ تَمنطَقَ معجَباً بـالنـارِ

أفاق هارون من نشوته.. استيقظت في أعماقه حمّى الخلافة.. لقد طلّق زوجته.. في نوبة سكر.
ترى ماذا سيفعل وهو « أمير المؤمنين، وخليفة المسلمين» ؟
التفت إلى جعفر.. جعفر ما يزال ثملاً، قال « الخليفة » بشيء من الجدّ:
ـ لقد وقعنا في مأزق.. كلانا طلق زوجته!
همس جعفر متصنعاً الجدّ:
ـ حقاً ؟! هذه مشكلة ليس لها غير أبي يوسف..
بغداد غارقة في منتصف الليل.. كل شيء بدا ساكناً سكون المستنقع، ما خلا خطى أحذية الحراس الثقيلة تتجه إلى بيت قاضي القضاة.
دقّات عنيفة تمزّق صمت الليل، هبّ القاضي من نومه فألقى حرّاسَ « الخليفة » يحملون مشاعل وقد اكتست وجوههم رهبة..
مثلما تغادر الخفافيش الكهف المظلم، تراكضت أفكار القاضي وهو يرتدي حلّته الرسميّة. لابدّ وأنّ أمراً عظيماً قد حدث في الإسلام، وإلاّ لم يطلبه « الخليفة » في هذه الساعة المتأخرة من الليل!
هتف بغلامه:
ـ لا تنسَ أن تأخذ معك مِخلاة البغلة.. فلعلّها لم تستوفِ عليقتها.
ـ سمعاً وطاعة.
امتطى القاضي بغلته، وضع كُمّه على أنفه يتوقى نسائم خريفية تبشّر بشتاء قارس البرد.
نهض هارون لاستقبال قاضيه.. ليس هناك من هو أفضل من هؤلاء القضاة.. إنهم يعرفون كيف يجعلون من الحلال حراماً ومن الحرام حلالاً.. هناك ما يشبه الصفقة بين الرجلين.. فالقاضي يعشق الذهب والجاه، و « الخليفة » يحتاج إلى عباءة القاضي.. ورضى القاضي من رضى الله!
كانت رائحة الخمرة ما تزال تفوح فتمتزج مع رائحة عطور غالية.
أصغى قاضي القضاة إلى مشكلة « الخليفة ».. اعصم جعفر بالصمت وكان يراقب من زاوية عينه..
قال « الخليفة »:
ـ وهكذا عجزنا عن تدبير الحيلة..
برقت في عينَي القاضي نشوة الانتصار:
ـ يا أمير المؤمنين! الأمر أسهل ما يكون.
التف أبو يوسف إلى الشاب البرمكي:
ـ يا جعفر، بع لأمير المؤمنين نصفها وهب له نصفها الآخر. . وهكذا سوف تبرّان في يمينكما.
هتف جعفر ثملاً:
ـ لقد بعتُ أمير المؤمنين نصف جارتي ووهبته نصفها الآخر.
هتف هارون جذلاً:
ـ أحضِروا الجارية في هذا الوقت، فإني شديد الشوق إليها.
وجاءت الجارية تمشي على استحياء.
اشتعلت حمّى الشهوات في عيني هارون فقال لابي يوسف هامساً:
ـ أُريد وطأها في هذا الوقت..
ـ ألا تنتظر يا أمير المؤمنين حتّى تمضي مدّة الاستبراء ؟!
ـ كلاّ، لا أُطيق الصبر عنها.. فهل عندك في هذا حيلة ؟
فكّر القاضي.. راح يبحث في تلافيف مخه عن مُسوّغ.. عن حيلة تسدّ جوع « أمير المؤمنين »!
ومضت في عيني القاضي بروق الانتصار فهتف:
ـ اِئتوني بمملوك من مماليك أمير المؤمنين لم يجرِ عليه العتق.
ما هي إلاّ صيحة واحدة حتّى وقف عبد بقامته الفارعة، قال القاضي:
ـ أتأذن يا أمير المؤمنين أن أُزوّجها منه ثم يطلّقها قبل الدخول، وعندها يحلّ لك وطؤها في هذا الوقت من غير استبراء.
ابتسم هارون للعبة القاضي، وقال لمملوكه:
ـ أذنتُ لك في العقد.
تمّ العقد.. وأصبح هارون قاب قوسين أو أدنى من الحسناء الفاتنة.. التفت القاضي إلى المملوك وقال:
ـ طلّق زوجتك!
ـ وإذا لم أطلّقها ؟
ـ طلّقْها ولك مئة دينار ذهب.
ـ لا أفعل.
ـ طلقها ولك الف دينار!
ـ ...
صرخ هارون بعصبية.
ـ يا ابن الفاعلة!
همس القاضي:
ـ لا تجزع يا أمير المؤمنين.. لو طلّقها كارها لم يصحّ؛ دعني أجد لهذا المشكل حلاًّ.
مرّة أخرى راح القاضي يقلب أوراقاً قديمة فهتف:
ـ وجدتها! ملّكْ هذا المملوك للجارية.
ـ ملّكتُه لها.
التفت القاضي إلى الفاتنة:
ـ قولي: قبلتُ.
ـ قبلتُ.
وهنا هتف أبو يوسف قاضي القضاة:
ـ حكمتُ بينهما بالتفريق؛ لأنّه دخل في مُلكها فانفسخ عقد النكاح.
هبّ هارون الرشيد « خليفة المسلمين في العالم » على قدميه وهتف:
ـ مثلك من يكون قاضياً في زماني.. إليّ بأطباق الذهب..
امتلأ حضن أبي يوسف بمسكوكات الذهب..
قال هارون وقد أُوتي من الكنوز ما إنّ مفاتحه لَتنوء بالعصبة أُولي القوّة:
ـ هل معك شيء تضع فيه ذهبك.
تذكّر قاضي القاضي المِخلاة:
ـ نعم.. مع غلامي مخلاة.
امتلأت المخلاة ذهباً يكاد سنا برقه يذهب بالألباب، وغاب هارون مع الحسناء الفاتنة وراء ستائر حمراء حالمة. ومضى أبو يوسف جذلان فرحاً.. قال لغلامه وهو يحاوره:
ـ لا طريق إلى الدنيا أسهل وأقرب من طريق العلم، لقد أُعطيت كلَّ هذا المال من أجل مسألتين أو ثلاث!


في زمن الزمهرير
ليس هناك في كل ذلك العالم المفتون مَن يدرك آلام موسى عليه السّلام.. رجل يحمل هموم الأنبياء وينوء بثقل آخر الرسالات في التاريخ.
لقد ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس.. المفتونون ينظرون إلى هارون.. ينظرون إلى رجل ذهبي.. يتحسرون في أنفسهم سرّاً وعلانية يقولون: يا ليت لنا مثل ما أُوتي هارون إنّه لذو حظٍ عظيم!
الدنيا تدور بأهلها.. تتغير من حال إلى حال.. زَهَت القصور فهي تنهض على أنقاض اللحوم الآدمية.. خبت المساجد انطفأت قناديلها.. وغطّى المحاريبَ الغبار.. ضاعت تراتيل القرآن في زمن الغناء.. أصبحت بغداد قبلة الذين فُتنوا بالعجل الذهبي.
ليس هناك من يدرك عذابات الأنبياء في زمن مشدوه بالذهب.. يجعل منه إلهاً من دون الله.
موسى يكاد أن يتشظّى غضباً لولا أنْ كظَمَ الحزن.. في عينيه تطوف غيوم ممطرة.. هنالك في أعماق ذلك الرجل الأسمر الذي ذرّف على الأربعين بركان يحتدم غضباً.
الأرض تشتعل بالثورة والنار ما تزال تحت الرماد، والذين نَجَوا من « فَخّ ».. يؤسسون دولاً ويُشعلون الأرض ثورة.. ها هو يحيى بن عبدالله ينهض وقد التفّ حوله « الدَّيلَم » في أرض الجبل (23).
موسى ينطوي على غضب سماوي.. يكظم حزنه، وهارون خائف يخشى موسى.. يخشى أسلحة الصمت الحزين.. يخشى كلمات تنفذ في أعماق القلب في تلك النقطة التي يُولَد فيها الإيمان، الأمل.. والثورة.. هارون لا يخشى إدريس ولا يحيى.. يعرف كيف يواجه تلك الأخطار.. لكنه يخشى موسى الأعزل من كل أسلحة الحديد.. هارون يدرك أن موسى.. يحمل في يديه عصا ابن عمران وفأس إبراهيم..
جاء صفوان زائراً فقال موسى عليه السّلام وهو يحاوره:
ـ يا صفوان، كلّ شيء منك حسن جميل.. ما خلا شيئاً واحداً.
أحسّ صفوان أنّه يهوي من فوق جبل:
ـ جُعلت فداك، أي شيء ؟!
قال الذي كظم غضب السماء:
ـ كِراكَ جِمالَك لهذا الطاغية.
قال صفوان مبرّراً:
ـ ولكني لم أفعل ذلك بَطَراً.. وأعرف أنّه لا يريدها للصيد أو اللهو.. إنما فعلت ذلك لأنّه يريدها للحج.. كما أني لا أتولّى خدمته بنفسي، إنما أبعث معه غلماني.
قال الإمام وهو يعلن حرب المقاطعة:
ـ أيَقَع كِراك عليهم ؟
ـ أجل يا سيدي.
ـ أتُحبّ بقاءهم حتّى يخرج كِراك ؟
ـ نعم.
ـ مَن أحبّ بقاءهم فهو منهم.. ومن كان منهم كان وراداً للنار.. لا تَرْكَنُوا إلى الذين ظلموا فتمسَّكمُ النار .
هتف صفوان مذعوراً:
ـ أعوذ بالله!
لقد قرر موسى الحرب.. وليس معه إلاّ الكلمات.. الكلمات التي تتدفق ملتهبة كحمم بركانية..


* * *

هنالك في الأُفق البعيد معركة فاصلة.. رجل أعزل من كل شيء إلاّ من ميراث النبوّات يواجه به نظاماً مدججاً بالسلاح.. مطموراً بالذهب.. ها هو هارون يجمع من حوله الشعراء ليسحروا أعين الناس.. يطلب منهم أن يقهروا موسى.
في زمن الزمهرير في زمن ترتجف فيه المدن.. في زمن يتعذّر فيه على الإنسان أن يحيا إنساناً.. في زمن يُمسخ فيه الكائن البشري ليستحيل إلى مخلوق آخر لا يملك من بشريته سوى إهاب كاذب في مثل هذا الزمن يختنق الأحرار.. يختارون الموت أو السجن.. من أجل أن تبقى للإنسان كرامته.
هارون ماهر في لعبة الشطرنج.. يعرف كيف يقهر موسى.. يعرف كيف يثير الحيوانات الكامنة في النفوس البشرية.. ها هي تتفلت من عقالها كثيران هائجة.. تدمّر حاجز العقل والدين والكرامة
فقدت الاشياء توازنها.. استقرارها، ولم يَعُد هناك من شيء مقدّس، فقد خسر الإنسان نفسه وهو يركع في حضرة العِجل الذهبي.. وأصبح القابض على دينه كالقابض على جمر.
كثيرون هم الذين بهرهم العجل الذهبي، فهم عاكفون عليه حتّى لو جاء موسى..
بريق الذهب يخطف الأبصار ويذهب بالألباب. وجاء رجل.. رجل انسلخ عن الإيمان، بهَرَه ذهبُ هارون.. يريد السفر؛ قال له موسى غضبانَ أسفاً:
ـ بلغني أنك تريد السفر ؟
ـ نعم.
ـ إلى اين ؟
ـ إلى بغداد ؟!
ـ علَيَّ دَين وأنا مُمِلق.
ـ أنا أقضي دَينك.
ولكنّ المبهور بعبادة العجل لم يلتفت إلى دعوة العبد الصالح. قال له موسى وهو يهبه ثلاثمئة دينار:
ـ لا تُؤتِمْ أولادي!
برقت عينا الاسخر يوطيّ بالغدر.
فانطلق إلى بغداد.. إلى كنوز قارون.. ودنيا هارون. وثب الشيطان في أعماقه.. فجاء يدلّ على ابن مريم.. جاء ليبني مجده على أشلاء مَن ولدته الأنبياء.. جاء ليبطش بموسى.. لقد أعماه بريق الذهب.. خلب لبَّه فسوّلت له نفسه قتل أخيه!


القلق الطاغي
بدا هارون في قصره ذلك الصباح البارد ثعباناً جامداً، عيناه تحدّقان في نقطة ما في أرضية البلاط.. كان يسفح أفكاره وهواجسه في تلك النقطة المبهمة.. يفكّر ويدبّر.. لقد انفجر الغضب العلوي في جبال الدَّيلم.. ولم يَعُد هناك من وقت للسكوت.
وهناك في المدينة رجل أسمر يقال له ( موسى ) يحمل في قلبه قرآن محمّد صلّى الله عليه وآله وفأس إبراهيم عليه السّلام وعصا موسى الكليم عليه السّلام.
وهناك في طنجة، حيث تغرب الشمس.. عَلَويّ آخر هو إدريس وقد نهضت له دولة، وأصبحت له صولة.
تناهت إلى أُذن هارون جلبة وضوضاء، لقد حضر وزير الدولة يحيى بن خالد البرمكي.. ما يزال يأمر وينهى وينصب ويعزل ويفعل ما يشاء..
هيمن صمت ثقيل كغراب جاثم.. وقد بدا رجال الدولة بثيابهم الرسمية السود سرباً من الغربان يبحث في الأرض..
كان هارون متوتر الأعصاب، لقد أدمن الخمر وها هو يتركها فجأة، ففي الأُفق الشرقي ما ينذر بالخطر.. يحيى العلَوي يرفع راية الثورة في أرض الجبل..
بدأ الوزير حديثه لكسر حاجز السكوت:
ـ غداً أو بعد غد، سينطلق وفدنا إلى شمارلمان ملك الفرنجة يحمل له هدايا الخلافة وفيها الساعة الروحانية، إنّه يريد منّا أن نحمي الحُجّاج النصارى الذين يقصدون بيت المَقْدس.. ونحن نريد منه أن يكفينا شرّ هشام في الأندلس وربّما صولة إدريس..
تساءل هارون:
ـ والطِّيب الذي أرسلته إليه ؟!
ـ لم أحصل بعدُ على أخبار.
التفت هارون إلى الفضل:
ـ أين كنت كلَّ هذه المدّة عن يحيى.. لقد التفّ حوله الديلم (24) وقويت شوكته ؟
ـ لا تخشَ شيئاً، أنا أعرف كيف أُخمد أنفاسه.
ـ أنا لا أخشى إلاّ شخصاً واحداً.
قال الوزير:
ـ ومن هو ؟!
ـ موسى بن جعفر..
سكت هنيهة وأردف:
ـ أشعر أنّه يحاربني هنا في بغداد.. بل في قصري، لَشدّ ما أمقت هؤلاء العلويّين.. لا أُطيق أن أراهم يعيشون، ويتزوجون، ويتكاثرون.
ومضت عيناه ببريق مخيف وهو يقول:
ـ إنّ موسى هو مصدر الخطر..
والتفت إلى الفضل:
ـ أخمِدْ أنفاسه قبل أن يستفحل أمره.. أنا لا أُطيق دولة إدريس، فإذا نهضت ليحيى دولة فلا آمن أن يقوم موسى ويضربني بمئة ألف سيف (25).
أرسل هارون نظرة من خلال نافذة القصر وتمتم:
ـ أريد الحجَّ هذه السنة.


* * *

مرّت أيّام شهدت فيها بغداد ثلاثة أحداث.. غادر موكب « الخليفة » العاصمة إلى الكوفة على طريق الحج، وتحرّك جيش قوامه خمسون ألف مقاتل بقيادة الفضل لقمع الثورة المشتعلة في أرض الجبل، ووفد يضم مسؤولين في الدولة يتوجه إلى أرض الفرنجة حيث يحكم الملك شارلمان.
بدا موكب « الخليفة » وهو يضمّ كبار رجال الدولة وجمعاً ـ من رجالات المجتمع؛ أنّ هارون يريد أن يعلن للجميع قائلاً:
ـ أيّها الناس، أليس لي مُلك نصف الأرض وهذه الأنهار تجري من تحتي ؟!
لا أحد يعرف ما يدور في خَلَد هارون وهو يصطحب معه ولديه عبدالله ومحمداً، أصبح موكب « الخليفة » قاب قوسين أو أدنى من الكوفة، ورأى من بعيد قوافل تتجه صوب بقعة على شطآن الفرات حيث ترتفع باسقاتُ النخيل.. صرّ على نواجذه بحقد.. أمرٌ عجيب.. إنه يمقت تلك البقعة، يودّ أن يعفّي قبورها وآثارها من الأرض ومن ذاكرة التاريخ.. لقد علّم الحسينُ الناس أن يعيشوا أحراراً أو يموتوا واقفين مثلما باسقات النخيل..
كان هارون يتأمل من بعيد سدرة ترسم ظلالها فوق قبر الحسين عليه السّلام.
خطرت في ذهنه فكرة، ومضت كبرق في قلب الظلمات، ماذا لو أنّه عاش في عصر الحسين ؟! إنه لن يتردد حتّى لحظة واحدة في تمزيقه.. إنّ المُلك عقيم، بل لو أن رسول الله نازعه في ذلك لقطع رأسه، إنّ يزيدَ لم يفعل شيئاً يستحق من أجله اللعن!
حطّ « الخليفة » رحاله في الكوفة.. في مدينة كانت يوماً ما عاصمة الإسلام.. ومخزناً للثورة.. ما تزال حلماً للثائرين.. فكلما ضاقت السبل على الأحرار أُمّوها ليجدوا فيها أسلحةً وسواعد مقاتلة وقلوباً تنبض بالحرّية.
ولكنّ الكوفة لم تكن كحالها بالأمس، تغيرت كثيراً، سرى لها الوباء من بغداد.. شاع فيها الخمر والغناء.. ومجون الشعراء.. حتّى أنّ « بهلول » (26) لم يعد يرى فيها شيئاً يأنس به سوى مقابرها يرتادها أحياناً كثيرة، يُصغي إلى صمت القبور.. وربّما حدّثها عن موت الكوفة.. عن انسلاخها من الآيات.


المجنون
غصّ المكان بالوافدين.. العيون جميعاً تبحلق بهارون وقد تربّع بين أولاده ورجال دولته.. تحسّر بعض أهل الكوفة وربّما همسوا فيما بينهم قائلين: يا ليت لنا مثل ما أُوتي هارونُ إنه لَذو حظّ عظيم!
هارون يتصفّح الوجوه، كان يحرص على أن يرى م%
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
آمال وهواجس الجزء الثالث
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات الشنتوف :: المنتديات الثقافية والأدبية :: منتدى الروايات-
انتقل الى: