كثير من زملائي المهتمين بالسينما يتعجبون – وبشكل ملحٍّ – من مدى عشقي لهذا السينمائي ، الكاتب والمخرج والمنتج السويدي الشهير ، ولأن بيرجمان ليس الوحيد الذي انفرد بتميزه ونبوغه السينمائي حيث تزاحمه كثير من الأسماء اللامعة القادمة من جميع أقطاب الأرض بمختلف ثقافاتها وانتماءاتها ودياناتها وأيديولوجياتها ، إلا أن هذه الشخصية ، بالذات ، تحظى بمكانة رفيعة لدي ، لا توازيها مكانة سينمائي آخر ..
والأمر – بالنسبة لي – ليس تفضيلا أحاديا يعتمد على رؤية نقدية أُرجِّح من خلالها بيرجمان على غيره ، لأنني – بالدرجة الأولى – مجرد مشاهد أُعجَبُ – من السينما – بما يجذبني وما أجده يعبر عني وما أحس بقوته وجماليته ولا أملك الحق النقدي لتفضيل سينمائي على سينمائي آخر ، ولكنها اقرب ما تكون إلى حاجة ملحَّة أجد من خلالها بيرجمان أكثر السينمائيين الذين يستطيعون أن يلفتوا انتباهي وأن يُبْـقُوا على مدى الدهشة التي أقف بها أمام أعمالهم باستمرار .
بيرجمان لديه القدرة الفائقة على سبر أغوار النفس البشرية ، على زعزعة اليقين بالشكوك التي تتطاير من أسئلته الحائرة ، يتمكن من اختراق أعمق المناطق النائية في النفسية البشرية بقدرته على فهمها وفهم تضارباتها ومتضاداتها وشكوكها ويقينها وطبيعتها بشكل عام .
ربما أعشقه لأنه يتمكن من التحدث عن نفسي ، عن شكوكي وما يَـلُجُّ في خاطري ، ولكن بلغته وطريقته ،
ربما لأنه يستطيع أن يطرح الأسئلة التي أبحث عن أجوبتها ويحاول أن يستنبطها من وحي فكره ،
ربما لأنه الأكثر قدرة على تشريح النفس البشرية في أدق حالاتها وأكثرها تعقيدا ،
ربما لأنه يبدع في ما سبق ويتمكن من الوصول بكل شفافية وانسيابية عميقة ودقيقة ومفهومة نحو ما يريد أن يصل إليه ،
بالنسبة لي ، هو المفضَّل ، بغض النظر عن الأفضلية التي تبدو هلامية لا يمكن الحكم عليها.
وفي هذا الموضوع ، سأقدم لمحة سريعة ، مختصرة ، قد لا تفي بحق بيرجمان حيث أنني لست الكاتب المهيأ للتصدي لمثل هذا السينمائي العظيم ، ولكن لمجرد المشاركة فقط ، وليس للنقد أو التحليل ، أضع هذا الموضوع بين يديكم ، محاولا الاختصار وعدم الاسترسال .
-*-*-*-
مـولده ونشـأته وبداياته :
ولد أرنست إنجمار بيرجمان في 14 يوليو/تموز من العام 1918م ، في مدينة أوبسالا الواقعة في الجزء الشرقي الجنوبي من دولة السويد الاسكندينافية ، ومن المفارقات التي لا يعرفها الكثير أن بيرجمان الثائر المعروف على التقاليد الدينية العتيدة والأفكار الكنسية الثابتة كان أبوه إريك بيرجمان كاهنا لوثريا ، معروفٌ في محيطه محترمٌ من قِـبَلِ جماعته ، علاقة أبيه المتوترة مع والدته أورثت صراعا داخليا كبيرا في بيرجمان ظهر بشكل مفرط في فيلمه ( فاني وأليكساندر ) الذي وثَّق من خلاله – في الخطوط العريضة – طفولته المشوبة بالاضطراب ، ومن خلال أعمال أخرى تلفزيونية أو كتابات أصدرها تحدَّث كثيرا عن مراحل طفولته من خلالها ، أمه تنحدر وبعكس والده من عائلة ناجحة ، يحس بيرجمان بالقرب إليها أكثر من والده ، ويستشعر معها راحة أكبر وطمأنينة أكثر ، تربى بيرجمان على ضوابط صارمة تفرضها التركيبة العامة لعائلته .
درس بيرجمان الأدب والفن في جامعة ستوكهولم العريقة ، إلا أنه اتجه بدافع الفضول نحو المسرح وحوَّل وجهته إلى هناك أكثر من غيره ، على الرغم من كتابته لأكثر من أوبرا ، وعندما تخرج منها انضم إلى مسرح ستوكهولم ليصنَّف كمخرج متدرب ، وفي تلك الفترة نشأت بينه وبين عائلته مشاكل عديدة بسبب علاقته بزميلة له وهو الأمر الذي عارضه والده لما له من خرق للتعاليم الدينية ، وهو ما أدى ببيرجمان للنزوح عن عائلته والانقطاع عنهم مدة تفوق الأربع سنوات ، وحينها قدم عديدا من الأعمال وكتب بعضا من السيناريوهات السينمائية ، وأهمها السيناريو الذي قام بكتابته لفيلم Hets عام 1944 والذي تولى عملية إخراجه المخرج السويدي المرموق Alf Sjöberg وفاز بجائزة في مهرجان كان السينمائي ، وفي ذات العام وفي سن السادسة والعشرين تحديدا أصبح بيرجمان رسميا أصغر مدير لمسرحٍ قوميٍّ في أوربا ، وهو مسرح مدينة هلسينبورغ ، وتنقل بعدها في أكثر من مسرحٍ قومي في السويد حتى تولى منصب مدير المسرح الدرامي الملكي من عام 1963 وحتى 1966 .
وفي أثناء ذلك تزامن مع بروزه في المجال المسرحي بداية دخوله في عالم السينما كمخرج وكاتب وليس مجرد كاتب فقط ، وذلك عبر فيلمه Kris في العام 1946 ، أتبعها بعديد من التجارب السينمائية – إن صح التعبير – حتى صقلت موهبته وارتفع ذوقه وحسه السينمائي إلى أن قدم فيلمه Summer with Monika في العام 1953 والذي أبرزه كثيرا في الشارع السويدي كواحد من السينمائيين المثيرين للاهتمام ، وما إن أعقبها برائعته الشهيرة Smiles of a Summer Night في العام 1955 التي انطلقت به نحو مشارف العالمية حينما ترشح فيلمه لثلاثة جوائز في البافتا وفاز بجائزة في كان وترشح فيه للنخلة الذهبية ، هذا الفيلم كان محطة انطلاقه ، وما إن رسا على هذا الطريق حتى فجَّر في العام 1957 قنبلتين سينمائيتين من العيار الثقيل ، وهما تحفتاه The Seventh Seal و Wild Strawberries ، منذ تلك اللحظة التي أعقبت خروجهما أصبح بيرجمان رسميا سينمائيا عالميا له متابعون ومعجبون ، أتبعها بنجاحات عديدة في مهرجانات عريقة وأصبح واحدا من أهم صناع الأفلام السينمائية في العالم .
وفي العام 1964 أصيب بيرجمان بمرض مزمن جرَّاء رحلة قام بها أفراد المسرح الملكي لمدينة Orebros لافتتاح مسرح جديد في تلك المدينة ، هذه الرحلة سببت لبيرجمان مرضا حادا عانى منه كثيرا واضطره للدخول إلى المستشفى لمدة سنة كاملة ، أصابه هذا الخمول السريري البليد بما يشبه الأزمة النفسية ، وهو أمر طبيعي لشخص فعَّال مثل بيرجمان ، وهناك قام بكتابة سيناريوه لفيلم ( الشخصية ) ، وهو أمر يتضح جليا حيث يبدو أن واقع بيرجمان كان حاضرا ببعض جزئياته في السيناريو .
وفي العام 1976 تم توجيه القبض على بيرجمان من قبل الدولة بتهمة التلاعب في الضرائب ، وحينها أصيب بيرجمان بانهيار عصبي مفاجئ أدخل على إثره إلى مصحة نفسية ، وبعد خروجه مباشرة غادر السويد متجها إلى ميونيخ ، محتجا بذلك على هذه التهم ورافضا النكوص لها ، وهناك أخرج بعضا من الأعمال السينمائية و التلفزيونية وأدار أحد المسارح الألمانية ، وفيما بعد تم إسقاط التهم وعاد من ميونيخ إلى دياره في العام 1982 ، ويقول في مقابلة أجراها أن هذا الابتعاد الجزئي منحه وقتا للراحة الذاتية ، للتفكير ، وجعلته يعيد ترتيب حياته وتحديد قيمه من جديد ، حيث منحته وقتا لذلك .
وعندما عاد قدَّم تحفته الشهيرة ( فاني وأليكساندر ) التي كانت مقتبسة من طفولته الشخصية ، على شكل حلقات تلفزيونية لصالح التلفزيون السويدي ، وبعده قام باقتطاع جزء منها وأخرجه كفيلم سينمائيٍّ مستقل كآخر فيلم سينمائي يقوم بإخراجه ، ليتفرع تماما للمسرح وتقديم ثلة من الأفلام التلفزيونية وكتابة بعض من السيناريوهات لغيره من المخرجين .
وعلى الرغم من أن سمعة بيرجمان قد علت في العالم ككاتب ومخرج سينمائي ، إلا أنه يُعدُّ أيضا واحدا من أهم المسرحيين السويديين على مدى تاريخه العريض والعريق ، حيث أن المسرح السويدي يعد واحدا من أهم المسارح الأوربية وأكثرها قوة وتأثيرا وخرَّج من الأسماء المؤثرة ما كان سببا رئيسيا في تطور المسرح الأوربي عموما ، المسرح الذي أنجب السويدي أوجست سترينبرغ أحد الآباء الروحيين للمسرح الحديث ، وقد كان له على بيرجمان تأثير كبير حتى أن رسالته الجامعية كانت مركزة على دراسة منهجية سترينبرغ .
ولذلك يصف بيرجمان في أحد كتبه وصفا لماحا فيقول أن ( السينما أشبه بعشيقته المثيرة ، إلا أن المسرح يظل زوجته الوفية ) ، تشبيه غريب نوعا ما !! ، ولكنه يوصل الرسالة التي يقصدها ، ولذلك فإن بيرجمان كانت أولى بداياته منبثقة من المسرح ، وإليه عاد بعد نهاية مشواره السينمائي ( تحديدا بعد فاني وأليكساندر ) ،
ولذلك يقول عن عودته للمسرح : ( إنه الإسطبل المناسب لحصان مُتْـعَبٍ مثلي )
رفض بيرجمان كثيرا من العروض الهوليوودية التي اعتادت استقطاب السينمائيين البارزين كما استقطبت الألمانيَّين فريتز لانج وموراي ، أو العروض الأوربية القادمة من دول تتميز بحركة سينمائية أنشط وأوسع ، إلا أن بيرجمان كان يمتلك نظرة مختلفة عن السينما ، نظرة أكثر عمقا وتفهما ، يراها انعكاسا للفن ، والفن نتاج ذاتي ، وبالتالي فالذهاب إلى دولة مختلفة تحت ظروف إنتاجية متقلبة قد تشوب هذه الذاتية بما تفرضه العوامل الخارجية ، مثله في ذلك مثل كثير من السينمائيين ، ولذلك فإن إخلاص بيرجمان لفنه وحبه الشديد له بِشِـقَّـيْهِ الاثنين السينمائي والمسرحي لهو أمر مثير للاهتمام ، حيث يبدو – لمن يركز في مشواره الفني – أن حياته ككل تدور في هذا المحيط ، فقد انكب على تأليف وإخراج الأعمال المسرحية في شبابه بنهم شديد ومثير للانتباه حتى أصبح أصغر مدير مسرحي في أوروبا حينها على الرغم من غزارة المسرح السويدي وعراقته وكثرة كوادره ومهارتهم ، وقدَّم ما يقارب الستة والستين عملا سينمائيا وهو عدد كبير للغاية ، كاتبا ومخرجا وأحيانا منتجا ، كلها في فترة قياسية ،
ولذلك فإن سبيلبرغ يصف ذات مرة إعجابه ببيرجمان فيقول ( إن حبه الشديد للسينما وإخلاصه لها يصيبني بالخجل ) .
أما على صعيد التأليف ، فقد قام بيرجمان بتأليف كتابين اثنين يتكلم فيهما عن حياته الشخصية والسينمائية وعن أعماله عموما ،
الكتاب الأول هو ( المصباح السحري ) .
والكتاب الثاني هو ( صور : حياتي في الأفلام ) ، وهو عبارة عن مذكراته الخاصة .
-*-*-*-
وفاته :
لا أعلم حقيقة ، هل أنا نحس أم ماذا ؟
فكرت في هذا الموضوع قبل وفاته بمدة طويلة ، وعندما شرعت في الكتابة لم يمر أسبوع واحد حتى جاء خبر وفاته مُكلِّـلا الوسط السينمائي ( الأصيل ) والمسرح العالمي والسويدي بقلائد الحزن ، وضاربا أطنابه مغروسة في باطنهما ،
أحسست بحرقة مريرة ، ليس لفقد بيرجمان السينمائي ، فذلك شخص افتقدناه منذ الثمانينيات عدى رجعة خاطفة في ( ساراباند ) ،
ولكن لفقد بيرجمان الإنسان ،
بيرجمان الذي كان انعكاسا لذلك الإنسان ، المشتت ، الضائع ، الخائف ، المتشكك ، الإنسان الذي لطالما قدمه في أفلامه ، وكأنه ورقة تتطاير في فضاء شاسع تتلقفها الأيدي وتتلاعب بها الرياح وتذبلها السنوات ،
الإنسان الذي لطالما تساءل عن الموت ، بشكٍّ تملؤه حيرة الخائف ، وخوف تغلفه ظنون الشك ،
ذلك الإنسان ، لم يكن إلا بيرجمان ،
وها هو الآن بعيدا عن خشبة المسرح أو عن وريقات السيناريو أو عن كرسي المخرج يواجه أعظم شكوكه : الموت ، الإيمان الرباني ، الخلود الروحي ، ويا لها من مواجهة !!
لا أعلم حقيقة كيف أصف شعوري ، فأنا أتكلم عن شخص ألهمني على الصعيد الشخصي ، وعلى الصعيد السينمائي ،
شخص سأظل أتذكره بعيدا عن فروقات الانتماءات والتوجهات واحدا من أعظم من أقف لفنهم وإبداعهم إجلال واحتراما وتقديرا .
الآن حلِّق ،
فلقد حان وقت الرحيل .
-*-*-*-
بيرجمان الكاتب .... بيرجمان المخرج :
لو أردت الاختيار بين بيرجمان الكاتب وبين بيرجمان المخرج ، لما تمكنت من الاختيار ، والسبب ليس في تفاضلهما ،
حيث أن العبقرية الحقيقية التي يمتلكها بيرجمان كامنة في سيناريوهاته أولا وقبل كل شيء ، وهو أمر لا يستدعي الجدل ، إنها سيناريوهات ذات طبيعة خاصة للغاية ، منفردة بشكل عجيب لا تماثلها سيناريوهات أخرى في طبيعتها وتركيبتها وسردياتها وثيماتها ، فهي تحمل البصمة الأساسية لبيرجمان ، حيث الفلسفية التي يتناول من خلالها محاوره المعتادة ويطرح من خلالها شكوكه ومخاوفه وأفكاره مدعَّمة بالرمزيات والإيحاءات والإسقاطات ، وحواراته النفسية العميقة التي يقدم من خلالها شخصياته المعقدة ، والتركيز الشديد على الأزمات الروحانية والمعضلات الإيمانية وعلى الإنسان ككائن حي يحمل في جعبته كثيرا من التضاربات والصراعات الداخلية التي تتعارض مع ما يواجهه ،
كوروساوا كمثال ، مخرج من الطراز الأول ، ابتكر كثيرا من الأساليب الإخراجية التي لازال يغرف من معينها مخرجوا اليوم ، مما يجعله أمهر في الجانب الإخراجي من بيرجمان ، ونفس الأمر ينطبق على مخرجين مثل ويلز وبونويل وفيلليني وهيتشوك وكوبريك وتاركوفيسكي وأنجلوبليس ، هؤلاء مخرجون من الطراز الأول ، كل واحد منهم خلق لنفسه أسلوبا خاصا يميزه عن غيره إخراجيا ، يعتمد بونويل على الإسقاطات النفسية والسريالية كثيرا ، فيلليني ابتكر لنفسه طريقا جديدا أصبح يُطلق عليه الفيللينية ، هيتشوك يعتمد على تدعيم الإثارة والتشويق المتقن ، كوبريك يخلق رؤية شديدة الخصوصية برمزيتها وغرابتها وقوتها ، تاركوفيسكي يجعل من أفلامه أحلاما لا يبدو أن لها نهاية تصبو إليها ، أنجلوبليس تبدو أفلامه كقطعة شاعرية رمزية هادئة ،
بيرجمان ليس كهؤلاء ، إنه مختلف بشكل كبير ، لك أن تفكر في بيرجمان كمشروعٍ مقسَّم بين طبيعته ككاتب وكمخرج ، وبالتالي فإنه من الضروري أن يمتزج هذان العنصران مع بعضهما ليخرج الفيلم كما يجب أن يكون ، بيرجمانيا ،
ولذلك فإن من يدقق في مسيرة بيرجمان مليا يكتشف حقيقة طردية ، جميع أفلامه التي تعتبر أيقونات ثابتة في مسيرته الفنية كانت من كتابته وحده ، أما الأفلام التي قام بإخراجها مقتبسة من سيناريوهات غيره لم يتمكن من الارتقاء بأيٍّ منها نحو مراتب أيقوناته التي قام بكتابتها ، ومن يشاهد فيلمان أحدهما قام بكتابته ( لنقل الختم السابع ) وآخر لم يكتبه (عذراء الربيع مثلا) يكتشف أن هنالك فرقا شاسعا بين الاثنين ، ربما تتفق في الأفكار عموما ولكنها تختلف في الأسلوب والروح والطريقة في الطرح والسرد ،
ففي اعتقادي ، أن بيرجمان لا يمكن أن نُشرِّحه بفصل مجاله ككاتب ومخرج ، حيث أنهما كما قلت يمثلان مشروعا يحقق اللمسة البيرجمانية التي تميزِّه كسينمائي .
الفرنسي روبرت بريسون مشابه بشكل كبير لبيرجمان في هذه النقطة تحديدا ، حيث تتميز سينماه بأسلوب شديد الخصوصية ، وتناغم بين كتاباته وعملية إخراجه .
الأمريكي الفذ وودي آلن ، يشبه بيرجمان أيضا في هذه النقطة تحديدا ، مع اعتبار الفوارق بالطبع ، وبيرجمان يعد أحد أهم المؤثرين في مسيرة آلن الفنية حيث يعتبره واحدا من الأساطين الذين يحتذي بهم وبأفلامهم ولذلك قدم ثلاثة أفلام متأثرة بثلاثة أفلام لبيرجمان ، كنوع من تقديم الاحترام ولكن بطريقة مميزة .
-*-*-*-
سينمـــا بيرجمــان :
قبل كل شيء ، يجب أن نعرف أن سينما بيرجمان عبارة عن سينما هادئة إلى أبعد الحدود ، أقصد في جانبها الشكلي ، وإلا فإنها صاخبة في شخصياتها وتضارب مشاعرها وأحاسيسها وفلسفياتها ، كما أنها سوداوية إلى حد كبير ، وهذه السوداوية عائدة لكون بيرجمان في حد ذاته شخص سوداوي ينظر إلى الأمور دائما من زوايا معقدة ومشوشة ، يشك دائما ولا يؤمن إلا قليلا ،
ولذلك ، فإن من أهم الأشياء التي يجب اعتبارها حين مشاهدة سينما بيرجمان ، أنها سينما ذاتية إلى أبعد الحدود ، تأملية بشكل كبير تغلب عليها النزعة الفكرية والفلسفية ، وتعتمد على تحليل شخصياتها تحليلا نفسيا دقيقا وإطلاق الإسقاطات والرمزيات ، أفلام لا تُـفهم جماليتها وروعتها في كافة مستوياتها إلا إذا عايشتها وكأنك جزء منها وحاولت استيعاب ما تقدمه وما تطرحه ، عليك أن تشاهد الفيلم وان تنغمس في شخصياته وان تحاول أن تضعهم على طاولة التشريح كما يفعل الفيلم ، لكي تتمكن من فهمها وفهم ما يريد الفيلم أن يصل إليه ، غير ذلك فإنك ستشاهد فيلما مملا مليئا بالحوارات والتركيز الشديد على الشخصيات والبطء في التنقل بين المشاهد وغياب عنصر الإثارة فيها ، فهي سينما تأملية ، فكرية ، إنسانية .
نظرة بيرجمان للسينما نظرة مختلفة عن كثير ممن هم غيره ، نظرة تتحكم بدورها بأسلوبه الفني في أفلامه ، إنه لا يتعامل مع السينما على اعتبارها الفني فقط ، ورغم إقراره بعظمتها في جانبها الفني البحت إلا أنه يتعامل معها كفنٍّ يجعله مجال بحثه عن كل ما هو روحاني وإيماني وإنساني : الله ، الدين ، الإنسان بكل ما يضمره ويُكنُّه ويتعايش معه ، المشاعر الإنسانية بكافة أشكالها ، المفهوم العميق الإنساني للحياة ، المفهوم العميق الفلسفي والإيماني للموت ، كل هذه المواضيع يجعل من السينما وسيلته للبحث فيها ومحاولة فك شفراتها والتوصل إلى فهمها ، وقليل من السينمائيين من يلتزمون بمثل هذا المفهوم ، سينمائيون مثل تاركوفيسكي وبريسون وأنجلوبليس ، السينما لديهم – قبل أن تكون فنا – وسيلةٌ للبحث ، ثم البحث ، ثم البحث ، عن كل ما يستتر خلف ستار الظاهر ويتوارى خلف الظواهر الطبيعية .
يقول تاركوفيسكي في كتابه النحت في الزمن عن مجموعة من الأسماء الفنية العظيمة :
( .... وسوف تدرك أية طاقة عاطفية هائلة حملها هؤلاء الأشخاص البارزون ، الذين يحلقون فوق الأرض ، والذين لا يظهر فيهم الفنان كمستكشف للحياة فحسب ، إنما أيضا كمبدع للكنوز الروحية العظيمة ، وخالق للجمال الخاص الذي ينتسب للشعر فقط ، فنان كهذا يستطيع أن يتبين خطوط التصميم الشعري للوجود ، وهو قادر على تخطي قيود المنطق المتماسك ، وكشف التعقيد العميق وحقيقة الروابط غير المحسوسة وظواهر الحياة المخفية )