معطف
كل شئ على ما يشتهى في مدينة المجازر والليل المتواطئ باستثناء خطأ ارتكبه مجرم مجهول: هو أنه ألهاني عن البكاء المرير حين اكتشفت فجأة أنني بلغت من العمر الثلاثين دون أن أبدل معطفي الرمادي القديم ذا الجيوب المخترقة.
صرختان
رأيتني عارياً تماماً وحيداً نماماً مرعوباً تماماً أقف مرتعشاً في ليلة شتاء وظلام قاسية حائراً بين دوي صرختين: صرخة الغابات الواسعة الموحشة وهي تغريني بالمجهول اللذيذ والمفاجآت السرية وصرخة زوجتية البضة الصغيرة وهي تغريني بفخذها الأسمر العريض وبسمة طفلتي الملائكية.
خاسرون خاسرون
سأنهض بعد قليل اقسم أني سأنهض لحظة اخرى من الدفء اللذيذ وانهض لن يطول الأمر كثيراً آه يا صوت امي الحاسم الخافت تأخر قليلاً ايها الصباح الماطر اللاهث خفف من خطوك الفريد المتوحش وهدئ من رشقات رياحك الفظة على نافذتي المكسورة وامنحني لحظة دفء اخيرة اغمضت عينيٌ نصف المفتوحتين غرقت في نشوة اللحظة الأخيرة خطفاً كعادتها الخبيثة جاءت الآن سأعرف أن موعد نهوضي قد أزف سأسمع صوت الباب الداخلي وهو يستجيب متثاقلاً هو الاخر لاصابع امي وينفتح بنواحه المتقطع المخيف سأرفع رأسي قليلاً اسنده على الوسادة سأبقي عيني مغمضتين سأوصد أبواب ذهني المتحفز كهارب أبله من اعصار يقين كاسح بينما تسري في عظامي بدبيبها الصخري حقائق النهار المرعبة.
آه سأتوقف هنا عن القص اعذرني ايها القارئ قد اعود وقد لا أعود ابداَ هكذا انا تماماَ كما عهدتني: رجل الشروخات والانقطاعات وسيد الانسحابات والتوقفات احس في عينيٌ تعباَ لا يشبه تعب العيون المعتاد هل هو الطقس الغادر الملعون؟؟ آه كم اكره هذا النوع من الطقس.. تكون فيه السماء بيضاء كلها والشمس تتخبط حيرى بين الصحو المتوهج والغفو المعتم ترسل حيناَ باشعاعها المرح الثقيل وتسحبه مذعورة حيناَ آخر. والنسمات المبعثرة الهشة تندفع باتجاه البيوت والناس والشجر مريضة صفراء هل كانت تنوح بصمت وتنزف دمعها العارم المخنوق؟ أم هو فنجان القهوة الذي انتظره بتوتر الغرباء العراء والهيام الذاوي الأخير للخاسرين العنيدين؟ ما زلت أجلس منذ ست ساعات غريباَ ووحيداَ ومتناثراَ في مكان ما النادل النحيل العجوز يمر من امامي صامتاَ وغامضاَ المارة بهيئاتهم المشعثة والمنضبطة يدلقون على وجهي نظراتهم المتسائلة والنادل العجوز ما زال يروح ويجيء محملاً بالصحون الفارغة تارة والملآنة تارة أخرى والتنهدات العميقة تارة ثالثة يرميني بنظرة المتوعد الأجعد القتيل ثم يمضي قاسياً باتجاه الآخرين.
سأم سأم سأم
تلك الظهيرة اللاهبة المتوحشة كل شيء كان يسلم للسأم استرخاءة القيلولة لم تعد تجدي الكتب الاغنيات، القبلات الراعشة المسروقة، قهوة المساء القادم حكايات جدتي طرائف الأصدقاء كتابة القصص القصيرة جداً كل ذلك لم يعد يجدي خرجت من البيت راكلاً الباب بقدمي ينهمر من عيني السباب غير آبه لتجاعيد وجه أبي دموع امي حوقلات جدي تضامن ابتسامة اختي فكل ذلك لم يعد يجدي لم يعد يجدي.
عائداً كنا من عملي
عائداً كنت من عملي عائداً مساءً الى المخيم تتقدمني جثث أعوامي الثلاثين وقطة عرجاء تتمرغ في قمامة الطريق عائداً كنت بابتسامة ضيقة معذبة خرقاء اوجاع في الظهر زخات حيرة لعبة طفلتي وبضع قبلات لزجات ادخرتها لامراه قد تاتى
تلك التي لا تأتي أبداً
في كافتيريا ما بجانب نافذة ما وامام ابتسامة نادل ما كنت وحيداً اجلس بانتظار صديقة ما تعرفت عليها في زمن ما ومكان ما كعادتها تأخرت الصديقة امسكت بالقلم ووجدتني اكتب أفكاراً غريبة لا أدري كيف تدفقت بهذا السخاء هل هي قصة كتبها لا وعي المشتعل من وحي صقيع الغياب وآلام الانتظار؟ (تلك التي لا تأتي أبداً) كان عنواناً غريباً لم أفكر به طويلاً حين كتبته لكن حنيناً غامضاً احس به تجاهه والفة حزينة دافئة احسها تقودني الى لججه بخطى مرتعشة لم اشعر بالصديقة وهي تصل بصخبها الرائع وهدوئها الفاتن ولم اصح الا على اصابع يديها وهي تنقر الطاولة ووهج عينيها وهو يدب في اضلعي مختالاً ولم اشعر أبداً ان على ان اتوقف عن الكتابة فتلك التي لن تأتي أبداً لم تصل بعد.
دائرة الخراب
في مقهى مزدحم رث الزبائن والجدران، وسط عمان اللهاث جلسنا معاً صامتين نحتسي الشاي ونراقب نوافير المياه وهي ترتفع باستقامة صلبة وكبرياء بطل ثم تنحني باستحياء وتهبط متفرقة شعثاء مكسورة النظرات كان صديقي وشريكي القديم في الغرفة الصغيرة والأسرار والمقعد الجامعي وحرائق الصبا البائد وجنون الأيام الآفلة يختلس النظر الحائر الى وجهي ويفاجأ مرتبكاً بنظراتي وهي تجوس حذرة في أخاديد واشعاب هيئته ستة عشر عاماً من الغياب احقاً هو صديقي هذا الذي يجلس أمامي بياقة مضطربة وملامح قتيلة؟ هل تراه يتساءل هو الآخر؟ لكم تغيرت يا صديقي..
- اخبار العمل؟
- لا بأس رغم بعض المنغصات المفترضة دائماً.
- كم من الاولاد لديك؟
- ستة اولاد وطفلتين.
- هل سنزور الجامعة مرة أخرى؟
- لا ادري لكننا سنعود برعب وهذيان وغصات كثيرة دعنا نوفر ذلك.
عمان مدينة الاكتاف المتدافعة والشبق المتسايل على الطرقات تلوح لي معتذرة صيحات تهكم وقهقهات تشف مجهولة المصدر تضج بها اركان المطار في داخلي تنداح دائرة الخراب.
كابوس:
في غرفة رقم "13" من طابق المستشفى الأخير كانت ترقد أمي على فراش الذهول أقف بجانب سريرها الآن وحيداً أقف ارقب بفزع تآكل نظراتها التي خبرت وحدتها وانطفاء صوتها الذي عايشت طويلاً جرسه دخل اخي الصغير ومعه اختي خلفهما كان ابي يخبئ هذيان عينيه اقترب اخي مني وهمس في اذني بصوت كالنذير:
- رب عملك يرقد في الغرفة المجاورة.
اعترتني دهشة فقد تركت عملي قبل ساعات وكان ربه قوياً كعادته رأيتني انسل بهدوء من غرفة امي وأقف في الرواق عند زاوية الغرفة المجاورة واسترق النظرات المضطربة من خلل ثغرات الاكتاف المحيطة بالسرير الى وجه رب عملي وهو ينبض بصفرة مميتة هل رآني رب عملي وانا اقف كالمعتوه أقدٌم نفساً وأؤخر نفساً آخر؟ هل اتقدم اليه واذرف على سريره الخوف والحزن؟ كان ثمة صياح مرعب ينفجر في غرفة امي لمحت اطيافاً بيضاء تتراكض في الرواق لم أدر ماذا أفعل؟ هل اغادر الى امي سريعاً؟ ام ابقى قليلاً وجدتني اندفع باتجاه رب عملي مخترقاً بصياحي واوجاعي ودموعي جدار الاكتاف السميك احسست يد رب عملي دافئة حنون وهي تربت على رأسي.
وهم كنت اجلس بجانبها في حافة أسير قسوتها الغامضة ورائحة شعرها النفاذة عائداً من جنازة صديق منتحر ادخن بشراهة اخبئ ما تبقى من دموع عينيٌ في جيب معطفي اعيد قراءة رسالة الصديق الأخيرة أرقب مذهولاً الاشياء والأرصفة والناس وهم ينخطفون بقوة غريبة الى الخلف كنت اتهيأ الحديث معها كأن اقول لها مثلاً: ايتها الفاتنة كالإعصار يا الهية الخصور لم يعد في قلبي متسع للكوارث افتحي شبابيك حياتي مزقي ستائر ظلمتي فقد اختنقت روحي في غرف أيامي المقفلة هل قلت لها ذلك؟ لم اعد اذكر ذلك او لم يعد يهمني ان اعرف، الحافلة تتوقف تبصق راكباً وتبتلع آخر فجأة رأيته يصعد الى الحافلة يتقدم نحوى مبتسماً الهي اليس هذا هو صديقي المنتحر لم اكن في جنازة اذن آه تذكرت الآن كنت برفقة صديقية قديمة قالت لي: انها تود مصارحتي بمشاعر جديدة جلس صديقي بجانبي وسيماً كعادته قال لي: يقولون ان الطقس سيتحسن غداً وانه لم يعد يثق بهم أبداً أبداً ويفكر جدياً في الهجرة الى بلاد أخرى بعيدة هبطت مع صديقي من الحافلة في الطريق الى صديق آخر توقف قرب شجرة هزيلة عارية اشهر مسدساً صوبه الى رأسه وقال لي قبل أن يفجرها قطعاً متطايرة: لم اعد اطيق آلام قدمي وهي تنحشر في حذائي الضيق.
هاوية
كنت مستلقيا على سريري, مرخيا لأطرافي العنان لتسترخي بعد أحداث يوم مخيفة عبرت حياتي كمجزرة, مهلا دعوني اصف المشهد بدقة اكثر, كنت أمدد جسدي على سرير غرفتي منحنيا على جنبي الأيسر , متكأ على رأسي بيدي, مطوحا بسدادة أطرافي في فضاء حقل بيتنا المشعث القريب, بعد جحيم نهار مريع عبر حياتي كمقصلة, كانت أختي تجلس قبالتي أو لعلها عشيقتي قد تكون خالتي لم يعد يهمني من تكون كنت أحاول أن ابدي تفهما لما تقوله كانت تتحدث عن عذاب طويل تعيشه مع زوجها الذي يضربها ويجبرها ليلا على اصدار صيحات معينة بدونها يدّعي انهما لن يحصلا على أطفال طرق أحدهم الباب طرقات مجنونة قامت المرأة لتفتح سمعت صوتا نسائيا مألوفا متهدجا يحدثها عن مستشفى ورحمة الله وما تبقى من عمر أحدهم انفجرت المرأة عند باب غرفتي صرخات متصلة رأيتها تقع على الأرض تمزق ملابسها تخبط برجليها ويديها اشياء الغرفة تلك اللحظات عرفت أن هذه المرأة أبدا ليست عشيقتي فثديها الأيسر لا تتوسط سفحة شامة سوداء صغيرة كانت الصرخات غريبة لم آلفها من قبل وفيما كانت المرأة تتكئ منهارة على اكتاف الأخريات وتنتقل الى غرفة مجاورة ستغص بعد قليل بنسوة كثيرات كنت اتمزق مستسلماً بأنياب أسئلة: هل تتماهى صرخات اللذة مع صرخات الفاجعة؟ هل من تخوم تحدد ايقاعاتها؟ كيف بوسع غريب محايد أن يعرف فيما اذا كانت المرأة تبكي أم تنتشي؟ كيف سأحصل على سدادة أطرافي تلك التي طوحت بعيداً عن المكان دون أن أعرف انني سأكون على موعد جديد مع الكآبة متثاقلاً نهضت من سريري كأني أحمل ست مدن على كتفي هل سمعت أصوات ضحكات في الغرفة المجاورة؟ لم أعد أذكر أو لا يهمني أن أتذكر كل ما أذكره هو أن هدوءاً غريباً ران على المكان وانني كنت حاقداً على زوجتي لأنها تركت جواربي دون غسيل وتركت طفلتي تعبث ببرازها وأن صوت أبي كان مخنوقاً وهو يتحدث لجارنا عن النفق الذي لم يغلقوه